بين العقاد وطه حسين بقلم: عبد الله احمد الباكري
كثيراً ما تتشابه سنون الولادة أو الوفاة بين العظماء والعباقرة ، ففي سنة 303هـ ولد أبو الطيب المتنبي وسيف الدولة الحمداني وفي عام 1859م ولد ثلاثة من عظام الفكر والفلسفة هم : إدموند هوسول وهنري برجسون وجون ديوي وفي عام 1632م ولد اثنان من أشهر فلاسفة الدنيا في عصرهما وهما الإنجليزي جون لوك والهولندي سبينوزا ، وفي عام 1932م توفي شاعرا العرب المجيدين أحمد شوقي وحافظ ابراهيم أما في سنة 1889م فقد ولد العقاد وطه حسين وولد معهما سلسلة من العظماء والمشاهير ولعل أبرزهم الزعيم النازي هتلر و الهندي جواهر لال نهرو وسالازار وشارلي شابلن وجيريل مارسيل ومارتن هيدجر وبول ناش و جان كوكتو وعبد الرحمن الرافعي وأرنولد توينبي.
وسنستعرض في هذا المقال القصير مقتطفات يسيرة من أوجه التشابة والإختلاف بين هاتين القامتين :
مناهج التعليم:
ضاق كل منهما من مناهج التعليم السائدة آنذاك فاكتفى العقاد بشهادته الإبتدائية شأنه في ذلك شأن العديدين من عباقرة الدنيا وجهابذة التاريخ الذين كرهوا قيود المناهج وصرامة المعلمين ونظم التعليم وراحوا يلهثون وراء فضاءات العلم الواسعة وحرية المعرفة الفسيحة فحققوا من الإنجازات والفتوحات ما جعل أسماؤهم تخلد في ذاكرة التاريخ ، فتوماس أديسون المخترع العظيم لم يكن يحمل حتى الشهادة الإبتدائية وليفنهوك مخترع المجهر وعالم الأحياء الشهير لم يعرف مقاعد الدراسة وغيرهم الكثير من العلماء والمفكرين والعباقرة والمبدعين ممن اكتفوا من مناهج التعليم ما يمكنهم من القراءة والإطلاع فلم يعرفوا مناهجاً ولا جامعات من أمثال أناتول فرانس وفولتير وجان جاك روسو واندريه جيد وهنريك ابسن وهربرت جيمس وفرجينيا وولف وفلوبير وبرنارد شو وكروتشه وتولستوي ومكسيم غوركي وباسترناك ورتشارد رايت وهربرت ريد ، وهذه الحالة ليست مقصورة على الغرب لوحدهم ففي وطننا العربي أيضاً كثير من الأعلام العظام الذين لم يجلسوا على مقعد الجامعة وكانوا يقارعون كبار الجامعيين من أمثال سلامة موسى ومحمد حسنين هيكل وحنا مينه وجمال الغيطاني ومحمد زفزاف وغيرهم الكثير.
أما طه حسين فواصل تعليمه الأزهري مكرهاً ومضطراً ، فتارة لا يطق المنهج ولا الأستاذ فيعلن ذلك جهاراً علناً غير عابئ بأحد وتارة يكتم غيظه ويصبر ويحتمل حتى أكمل تعليمه واستطاع أن يظفر بمنحة دراسية إلى جامعة السوربون العريقة بفرنسا مما مكنه من مواصلة تعليمه هناك وقد أودع كفاحه ونزاعه مع مناهج التعليم في كتابه الشهير ( الأيام ) .
أما طه حسين فواصل تعليمه الأزهري مكرهاً ومضطراً ، فتارة لا يطق المنهج ولا الأستاذ فيعلن ذلك جهاراً علناً غير عابئ بأحد وتارة يكتم غيظه ويصبر ويحتمل حتى أكمل تعليمه واستطاع أن يظفر بمنحة دراسية إلى جامعة السوربون العريقة بفرنسا مما مكنه من مواصلة تعليمه هناك وقد أودع كفاحه ونزاعه مع مناهج التعليم في كتابه الشهير ( الأيام ) .
عاش العقاد حياته وهو يؤثر الوحدة على الإختلاط ويهوى معاشرة الكتب والمراجع على مخالطة الغوغاء ومجالسهم ، وبالرغم من ذلك كله فإنه لم يكن بعيداً عن حياة الناس والمجتمع بل كان مشاركاً وفاعلاً بينهم وبين قضاياهم فكان كاتب مقالة من الدرجة الأولى ومؤلفاً من الطراز الرفيع وصالونه الشهير كان كعبة المثقفين والمفكرين ورجال الدولة وطلبة الجامعات والمهتمين بآرائه وفكره ، وبريده كان يعج برسائل البسطاء من شرق الوطن العربي وغربه.
الحياة:
هذه الوحدة التي فرضها العقاد على نفسه وقيدها به كانت إيجابيتها تتجلى بالفراغ الذي قتله بالإطلاع على مئات المصنفات العربية والأجنبية والتي خرج منها بحصيلة ثقافية وفكرية مكنته من مقارعة كبار المتعلمين والأكاديميين وحملة الشهادات العليا بل وجعلته في بعض الأحيان يفحمهم حجة وبرهاناً ، ولكن هذه الوحدة حرمته من رؤية الدنيا على وجهتها الحقيقية مما جعله يتطرف في نظرته للمرأة وللمجتمع وأفقدته الرؤية النقدية الموضوعية في كثير من الأحيان .
لم يتزوج العقاد في حياته ولعله حتى لم يفكر به على الإطلاق ولعل بعده عن المرأة جعله يتطرف في رأيها عنها ويبعد عنها ويبعدها عنه وإنني لكم تمنيت أن أرى العقاد يتزوج بامرأة فائقة الجمال والبهاء ولها من النشاط والهمة ما يمكنها من رعاية العقاد والعناية به إني لأعتقد أنه كان بمقدوره أن يحيا حياة أروع من التي عاشها ويقدم من الإسهامات الثقافية والفكرية أسمى من الذي قدمه !!!
أما طه حسين فلم يكن يؤثر الوحدة كصاحبه وعندما أراد أن يتزوج اختار شريكة حياته فرنسية الجنسية وهي السيدة سوزان ، وعاش طه حسين حياته مفعماً بروح الفكر والسعادة ، ففي كل صيف يسافر إلى فرنسا متنعماً بجوها العليل ونسيمها الهادئ ، كما أنه تقلب في مناصب حكومية عدة فكان عميداً لكلية الأدب كما أنه تقلد منصب وزير المعارف وأطلق عبارته الشهيرة : العلم للجميع كالهواء والماء ، فصنع لنفسه حياة أشبه بالأرستقراطية خصوصاً بعد زواجه من السيدة الفرنسية وتخلص من أعباء الحياة وشقائها الذي عاشه في صباه على عكس صاحبه العقاد الذي عاش الشقاء طيلة حياته.
النقد:
العقاد كان متطرفاً في رؤيته النقدية للأشخاص ، فقد كان يسرف في إطلاق العبارات المتنافية مع الشخصيات التي يتعرض لها بالنقد فنسمعه يقول جاهل عن أستاذ كبير كـ لويس عوض أو كـ عبدالرحمن بدوي ويسفه آراء لمفكر عظيم كـ طه حسين وهكذا ويقلل من مستواهم بل وينفي عنهم الثقافة والفكر في غالب الأحيان .
أما عن فطنة العقاد وذكائه فلا شك أنه كان بمنتهى العبقرية التي أدهشته سيرها وأسرارها فتحدث سيلاً عنها في شخصيات الإسلام الأولى ، وقد عرف بسرعة بديهته وقدرته على الرد والإفحام .
أما عن أسلوبه النقدي الأدبي فلم يكن يحب التطويل والإسراف في القول بل كان يهوى الإيجاز والإختصار فجاءت مقالاته جواهر الكلم ودرره وكان منطقياً عقلانياُ في عرضه لأفكاره فكان يعرض الفكرة ثم يتبعها بسيل من الحجج والبراهين التي تلتف حول الفكرة مدافعةً ومرافعة عنها على عكس غريمه طه حسين الذي كان يهوى الإطالة والتفنن في بلاغة القول وقد وصف الأستاذ أنيس منصور أسلوب الإثنين بأن العقاد كان مخلاً لدرجة أنك قد لا تفهمه أحياناً بينما الآخر كان يطيل زيادة عن اللازم .
أما عن منهج العقاد في النقد الأدبي فقد كان في بداية حياته الأدبية متأثراً بأدباء الرومانسية الإنجليز من أمثال ووردزورث وتشيلي ، أما بعد أن عاد طه حسين من فرنسا وبدأ بتطبيق مناهج الفرنسيين على الأدب العربي تأثر العقاد بهذا المنهج وبدأ بكتابة دراساته عن ابن الرومي وغيره على ضوء هذه الدراسات ، وله دراسة نفسية عن أبي نواس تعد أول دراسة في تاريخ الأدب العربي من هذا النوع ولكنها لم تعجب غريمه طه حسين الذي قال : إنها لا تعجبني لأن العقاد يطبق النظريات النفسية على الشاعر ويضعها في قوالب حديدية ، وعندما بلغه مقالة غريمه رد عليه ساخراً : هل لو وضعت الشاعر في قوالب من الحرير يكون التفسير صحيحاً ؟!!
أما منهج الدكتور طه حسين في النقد فقد بدا واضحاً في نقده للمتنبي وشعره ، وقد كان هذا المنهج بدعاً لم يسبقه إليه أحد في تاريخ الأدب العربي ، فكان يمزج بين منهجين نقديين استقاهما من دراسته لمدارس النقد الفرنسي وهما : المنهج العلمي وقد أسسه سانت بوف في القرن التاسع عشر ويعتمد على دراسة الأديب دراسة شاملة مستفيضة تتعلق بسيرته الذاتية والعصر الذي عاشه والظروف المحيطة به وبين المنهج التأثري أو الإنطباعي ويعتمد على ذائقة الناقد في نقد النصوص وفحصها ومما لا شك فيه أن الدكتور طه حسين كان متمتعاً بذائقة راقية قادرة على تلقي النصوص والتمييز بين جيدها ورديئها وهو ذوق اكتسبه من معايشته طويلاً للنصوص العربية القديمة والأوروبية الحديثة في أرقى نماذجها ومن معرفته الواسعة بنظريات نقد الشعر .
إلقاء الشعر:
عرف الدكتور طه حسين أنه كان رائعاً وفناناً في طريقة إلقائه للشعر لدرجة افتتان الحضور به وطلبهم إياه المزيد من الإلقاء كما أنه كان أحياناً يستشهد الشعر في غير محله لأنه كان يريد فقط أن يلقي الشعر ويقوله .
أما العقاد فلم يكن يقل شأواً عن صاحبه في إلقاء الشعر ، فقد كان فناناً في إلقائه ورفيعاً في إنشاده وإن لم يبلغ شأو صاحبه في ساحريته وعذوبته .
الجرأة:
جرأة طه حسين تتمثل في حياته كاملة بل لعلها ولدت معه فمنذ كان في الأزهر الشريف وهو يعارض مدرسيه ويجادلهم بلا خوف ولا تردد وعلى عكس أقرانه الذين استهواهم المألوف حتى ألفهم هواه ، كما أن جرأته في كتابه (في الشعر الجاهلي ) فاقت المعقول وإن كان قد بالغ في آرائه وأخطأ وأشنع في بعض طرحه كما أن جرأته تتمثل في عدم مجاملته لأحد ولو كان من أعز الناس إليه وأحبهم إلى نفسه فقد كان على حبه لتلاميذه وفرحه بلقياهم إلا أنه أحياناً قد لا يتورع في اتهامهم بأنهم لا يتعمقون في كتاباتهم ودراساتهم وأنه لا يلتمس عندهم عمق الثقافة والأدب وأنهم قليلوا القراءة والإطلاع وحتى لا يأخذوا في أنفسهم منه يؤكد لهم أن حبه الشديد لهم يجعله يقول لهم حقيقة انطباعه عنهم .
الصالون:
كان للعقاد صالون أسبوعي شهير يعقده في يوم الجمعة ويؤمه كبار المثقفين والفنانين والأدباء والمفكرين من أمثال عبدالرحمن صدقي وصلاح طاهر وطاهر الجبلاوي وزكي نجيب محمود وعلي أدهم و العوضي الوكيل ومحمد غلاب وكامل الشناوي وأحمد هيكل وغنيمي هلال وجاذبية صدقي و شريفة فتحي وغيرهم كثير ، وقد دون أنيس منصور كثيراً مما دار فيه في كتابه الشهير ( في صالون العقاد كانت لنا أيام ) .
حكى أنيس منصور بأن صالون العقاد قد امتلأ بكثير من الحيوانات وأنه كان يجد متعة في أن يقارن بين الحيوانات وبين تلامذته أو أصدقائه الكبار!!
أما صالون طه حسين فلم يبلغ شهرة صالون العقاد لأنه لم يكن عاماً بل كان مختصاً بتلامذته وحواريَه ولعل أبرز الأسماء التي تلوح بينهم محمود أمين العالم و محمد مندور و عبدالقادر القط وعز الدين اسماعيل وشوقي ضيف وفاروق شوشة وسهير القلماوي وغيرهم .
وبما أننا تحدثنا عن صالون العقاد فلنتحدث عن بيته لعل الصورة المتباينة تظهر للقارئ بين هذين العملاقين ، فبيت العقاد كان عبارة عن شقة في مصر الجديدة .البيت رقم 13 شارع السلطان سليم والذي أصبح اسمه اليوم شارع عباس العقاد ، كان هذا البيت نظيفاً في هيئته إلا أن محتواه كان من الطراز القديم ولعل غياب المرأة هنا واضح عليه هذا التأثير ، وكان بابه مفتوحاً في أغلب الوقت والحين وكذلك نوافذه وستائره ، أما بيت طه حسين فكان فاخراً كقصور الملوك وأبوابه ونوافذه مغلقة وستائره مسدلة ، وإذا أردت أن تقابل العميد فعليك أخذ موعد من السكرتارية وتبين فيه مغزى الزيارة على عكس الأستاذ العقاد !!
الآراء:
كان للعقاد رأي حول الشيوعة والوجودية والنازية ولا يجد خلافاً كبيراً بينهم لأنها جميعاً تدوس كرامة الإنسان أو أنها لا تقيم وزناً لحرية الإنسان ، فالشيوعية تجعل الإنسان حذاءً للمجتمع ، والنازية تجعل الإنسان حذاءً للحاكم ، والوجودية تجعل الكون كله حذاءً للإنسان ، مالذي يساويه أي إنسان حتى يضع الكون كله في جزمته ؟!!
كما كان للعقاد رأي ظريف في الغناء فكان يرى أن ألحان محمد عبد الوهاب جميعها متشابهة ، والفرق بين اللحن الحزين واللحن المرح هو سرعة دوران الإسطوانة في الجرامافون – فإذا أدرنا الأسطوانة بسرعة ، كان اللحن مرحاً وإذا أدرناها ببطء كان اللحن حزيناً .
أما عن رأيه في الجمال فكان يرى أن الجمال هو الحرية ، فالجسم الجميل هو الذي تمشي فيه الحياة بحرية ، وكان يصف جبهة مي زيادة بأنها جبهة حرة ! أي أنها في منتهى الجمال .
رأي كل منهما في الآخر
في بداية الستينات جمع أنيس منصور كل من العقاد وطه حسين والحكيم على خط الهاتف مباشرةً على الهواء فهاجم بعضهم البعض ، وكان العقاد لا يتوارى عن هجومه على طه حسين فكان يقول عنه إنه عمى الأدب العربي وليس عميد الأدب العربي وكان كثير الإستنكار أنه يفتتح معارض للصور والتماثيل !!
أما طه حسين فكان هجومه العنيف على العقاد كثيراً بعد وفاته فكان يقول لأنيس منصور :
– ما الذي أعجبك في صاحبك وأنا أحمل ست دكتاتوراهات؟!!
– ما الذي أعجبك في صاحبك وأنا أحمل ست دكتاتوراهات؟!!
وكان يقول أنه على استعداد تام لإقامة جائزة وأن يتحمل هو شخصياً كامل نفقاتها لمن يفهم كتاب عبقرية عمر ، وكان يقول إن العقاد غامض جداً في كتاباته ومعانيه ويتساءل هل لدى العقاد إلمام ومعرفة باللغة الألمانية ؟!! لأن فلاسفة الألمان ومفكريهم من أكثر العلماء غموضاً وإبهاماً.
—
—
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق